الجامعة الأمريكية بالقاهرة

دراسات عربية 202

د. محمد سراج

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بحث

(تلخيص الإبريز في تلخيص باريز) للطهطاوي

محمد الجيش – 900021821

العناصر

 

مـقـدمـة 2

في الإنــســان. 3

أيدلوجية الطهطاوي. 7

تخليص الإبريز في تلخيص باريز 9

الفجوة بين التنويري والجمهور 13

خاتمة 14

المراجع. 15


مـقـدمـة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم *"

صدق الله العظيم

 

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة القراءة، وجعل لنا الألباب، وعلمنا ما لم نعلم، وأرسل لنا الأنبياء والرسل، وجعل العلماء ورثة الأنبياء. هؤلاء العلماء كانوا - وما زالوا - لنا نبراسًا منيرًا وسراجًا هاديًا. ورسالة العلماء هي التنوير، ومن رواد التنوير في عصرنا الحديث عالم جليل، أخذ على عاتقه تنوير هذه الأمة في ذلك العصر الذي شهد اضمحلالها وقد كان مؤمنًا بأن المثاقفة بين الأمم ضرورة تفرضها الرغبة في التأثير والتأثر بحثًا عن الحكمة، وأن الاسترشاد بالرؤى النيرة والأفكار الخلاّقة يكون من أجل تشييد بنية ثقافية متماسكة، وواعية بذاتها وعارفة ما لدى الآخرين من منجزات وأفكار يمكن توظيفها، أو رفع المناعة ضدها، لما لها من أثر في سلب الهويّة، وطمس معالم الخصوصيّة. وأنه بمقتضى الطبيعة البشرية المبنية على النقص، وعلى حب البحث عن الجديد ومعرفة الآخر. قامت الثقافات البشرية على المثاقفة فأثرت وتأثرت، واختلفت درجات ذلك التأثير والتأثر باختلاف الرصيد الحضاري، والشعور بقيمة الذات والحفاظ عليها، كما حدث تبادل للتنوير في كلا المجتمعين: المؤثر والمتأثر. فذابت ثقافات في نسيج ثقافات غالبة، وفقدت هويتها، كما حدث مع غالب ثقافات العالم الثالث، ونجحت ثقافات أخرى في المثاقفة، عندما قامت على أسس محكمة، وقد تتبدل الأدوار بالتناوب من حقبة لأخرى، ألا أن الناتج النهائي هو ظهور التنوير في كل الأحوال.

وقد حرص ديننا الإسلامي على البحث عن الحكمة، ودعوته المثاقفة الراشدة. وعُرفت المثاقفة، مع سرد موجز لتاريخ المثاقفة في الثقافة العربيّة، مع الثقافات الأخرى وكشفت عمّا آل إليه المشهد الثقافي في مثاقفتنا الجديدة مع الغرب عقب دخول الحملة الفرنسيّة إلى مصر عام 1798 م، وكيف انقسم الواقع الثقافي إلى فئتين متنابذتين، وكيف غذّى الوسط الاجتماعي هذا الانقسام وكيف تفاعل المثقفون مع هذا الحدث وكيف ساهمت الحياة في بناء شخصية عالمنا الجليل رائد التنوير وكيف تعامل معها .. من وكيف ولماذا ومتى وأين ..؟ وأسئلة أخرى كثيرة عن رائد التنوير رفاعة رافع الطهطاوي قد نتوصل إلى إجاباتها في إطار الصفحات الآتية.

 


في الإنــســان

 

وُلد رفاعة رافع الطهطاوي في 7 جمادى الثانية سنة 1216هـ الموافق 15 أكتوبر سنة 1801م في مدينة طهطا بمديرية جرجا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر. ينتهي نسب رفاعة الطهطاوي من أبيه إلى سيدنا الحسين، ومن أمه إلى الخزرج، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة ثم سرعان ما حفظ القرآن الكريم، ثم ترك طهطا بعد وفاة أبيه هربًا من الضائقة المادية التي أحاطت بأسرته. والتحق بالأزهر في سنة 1817م (1232هـ) .. تلقى رفاعة العلم عن عديد من شيوخ الأزهر الأعلام، فقد درس صحيح البخاري على يد الشيخ الفضالي المتوفى 1820م (1236هـ) .. ودرس جمع الجوامع في الأصول و مشارق الأنوار في الحديث على يد الشيخ حسن القويسني الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1834م (1250هـ)، ودرس الحكم لابن عطاء الله السكندري على يد الشيخ البخاري المتوفى 1840م (1256هـ)، ودرس (مغنى اللبيب) و (جمع الجوامع) على الشيخ يد محمد حبيش المتوفى 1869م (1269)، ودرس (شرح ابن عقيل) على يد الشيخ الدمنهوري المتوفى 1869م (1286هـ)، ودرس (الأشموني) على يد الشيخ أحمد الدمهوجي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1838م (1254هـ)، والمتوفى 1848م (1264هـ)، ودرس على يد الشيخ إبراهيم البيجوري الذي تولى مشيخة الأزهر المتوفى 1860م (1277هـ)، أما أهم أستاذ تتلمذ على يديه رفاعة الطهطاوي هو الشيخ حسن العطار المولود 1766م (1180هـ) والمتوفى 1835م (1251هـ) وقد تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر سنة 1830م  (1246هـ).

في سنة 1821م تخرج رفاعة في الجامع الأزهر، وكانت سنه 21 عامًا، ثم جلس للتدريس في نفس الجامع الأزهر لمدة عامين (1822م - 1824م) وكان ممتازًا في سلوكه فأقبل الطلاب على درسه‏‏ وكان موفقًا ومحققًا حسن الأسلوب وحسن الإلقاء سهل التعبير، ثم انتقل إلى وظيفة واعظ وإمام في خدمة الجيش واستمر في هذا العمل حتى سنة 1826. وفي سنة 1826م قررت الحكومة المصرية إيفاد أكبر بعثاتها إلى فرنسا وكان الطهطاوي ضمن هذه البعثة رغم أنه لم يكن طالبًا من طلاب هذه البعثة، بل رشحه الشيخ حسن العطار لكي يقوم لطلابها بالوعظ والإرشاد، ويؤمهم في الصلاة، لكنه لم يكتفِ بذلك ونبغ في تعلم الفرنسية وأجادها وتتلمذ على أيدي أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت، استمرت البعثة خمس سنوات (1826-1831) استقى فيها الكثير من العلوم والمعارف، وعاد إلى مصر وهو مملوء بالمعاني الجديدة فبدأ في إنشاء المدارس وترجمة الكتب وتبسيط العلوم والمعارف، ونشر الكتب، وتحرير المقالات الصحفية. وقد اكتسبت الصحافة على يديه تقدمًا في فن المقالة الصحفية، وتخرج على يديه جيل المترجمين الأوائل الذين أثروا الحياة الثقافية في مجالي الفكر والعمل. وأصبح الطهطاوي أول قمر صناعي يحمل المعرفة‏‏ ويعمل على إضاءة العقول‏ وزادت البعثات وتوطدت الاتصالات بعالم الحضارة الحديثة. قمر صناعي بشري أحدث الصدمة الحضارية الأولى بما حمله وهو يعود من بعثته. كنا منذ نحو‏200‏ عام لا يزيد عدد من يعرفون القراءة والكتابة عن 200‏ إنسان ضمن شعب تعداده 5‏ ملايين،‏ ويومها قال العالم الفرنسي جومار وهو شديد الإعجاب والاندهاش في ذات الوقت‏،أنه لا يكاد يصدق أن عربًا أتوا إلى باريس من عشرين شهرًا تمكنوا من أن يعبروا عن أفكارهم بشعر فرنسي لا عيب فيه‏. وقدم في امتحانه النهائي عام 1830م 12 موضوعًا في الترجمة وقدم كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) كرسالة تكميلية. وعند عودته إلى مصر قام بتنقيح الكتاب وصياغته بالعربية ليطبع لأول مرة في مطبعة بولاق عام 1834م، وفى عام 1849م أصدر طبعته الثانية - وفى عام 1993 أصدرته هيئة الكتاب ضمن سلسلة من الكتب أطلقت عليها اسم (التنوير) - فلما رجع إلى مصر صار علمًا من الأعلام حتى وقتنا الحاضر. وأهم أسماء بعض طلبة البعوث العلمية التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا: رفاعة رافع بك الطهطاوي (أول ناظر لمدرسة اللغات والألسن)، ومصطفى مختار بك (أول ناظر للمعارف من تلامذة بعثة 1826م، وعلي باشا مبارك (المهندس والمؤرخ المشهور)، ويوسف بك حكيكيان (ناظر مدرسة المهندسخانة من سنة 1834م إلى سنة 1838م)، ومحمد علي باشا الحكيم (طبيب وجراح مشهور)، ومصطفى محرمجي (مهندس قناطر وجسور)، ومحمد بك السكري (مدرس بمدرسة الطب)، ومحمد شافعي بك (ناظر المدرسة الطبية)، ومحمد بيومي بك (مدرس بمدرسة المهندسخانة)، ومظهر بك (مهندس القناطر الخيرية)، ومحمد شباسي بك (مدرس بمدرسة الطب)، وحسين بك الإسكندراني (ناظر البحرية)، ولمبير بك (ناظر ممدرسة المهندسخانة من 1838م).

لقد بلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا في زمنه 319 طالبًا أنفق عليهم 224 ألف جنيه مصري. واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يكونوا سادة المجتمع وأن يساهموا بشكل مباشر وفعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كافة الأصعدة والميادين الحياتية كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع العقدية والفكرية هم وتلامذتهم الذين جاءوا من بعدهم تمامًا كما أراد محمد علي باشا ومستشاروه. في سنة 1832م (1283هـ) عاد الطهطاوي إلى مصر من بعثته وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير أساتذته في فرنسا تحكي تفوقه وامتيازه وتعلق عليه الآمال في مجال الترجمة. وكانت أولى الوظائف التي تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين في مثل هذا العمل. وفي سنة 1833 (1249هـ) انتقل رفاعة الطهطاوي من مدرسة الطب إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة (طره) إحدى ضواحي القاهرة كي يعمل مترجمًا للعلوم الهندسية والفنون العسكرية. وفي سنة 1835 (1251هـ) تم افتتاح أول مدرسة للغات في مصر وكانت تسمى أول الأمر (مدرسة الترجمة) ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى (مدرسة الألسن) وهي الآن كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس بالقاهرة. ويعتبر الطهطاوي أول من أنشأ متحفاً للآثار في تاريخ مصر. ويعتبر  الطهطاوي أول منشئ لصحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في سنة 3 ديسمبر 1828م أي عندما كان الطهطاوي في باريس لكنه لما عاد تولى الإشراف عليها سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، أصبح للجريدة في عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين. وأهم مؤلفات الطهطاوي هي : تخليص الإبريز في تلخيص باريز ويسمى هذا الكتاب أيضاً (الديوان النفيس بإيوان باريس) وهو الذي صور فيه الطهطاوي رحلته إلى باريس وتقدم به إلى لجنة الامتحان في 19 أكتوبر 1830م، ومناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية: وقد خصصه الطهطاوي للكلام عن التمدن والعمران ولقد طبع في حياته سنة 1869م (1286هـ)، والمرشد الأمين في تربية البنات والبنين: خصصه الطهطاوي لفكره في التربية والتعليم وآرائه في الوطن والوطنية، وقد طبع في العام الذي توفي فيه 1873م (1290هـ)، وأنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل: وهو الجزء الأول من الموسوعة التي كان قد عزم الطهطاوي على تأليفها وفي هذا الجزء يتكلم عن تاريخ مصر القديمة حتى الفتح الإسلامي، وطبع في حياة المؤلف سنة 1868م (1285هـ)، نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، والمعادن النافعة، وعشرات الكتب والأبحاث والقصائد والمنظومات الشعرية من علوم شرعية ولغوية وأشعار في الوطنية ومدح الولاة وغير ذلك. أما عن أهم المترجمات التي قام بها الطهطاوي فهي: مواقع الأفلاك في وقائع تليماك، وقلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، الذي ترجمه عن كتاب Apercu historique sur les moeurs et usages des nations، وتاريخ القدماء المصريين (طُبع سنة 1838م)، وتعريب قانون التجارة الفرنسي (طُبع سنة 1868م وتعريب القانون المدني الفرنسي (طُبع سنة 1866م وكتاب قلائد الفلاسفة (طُبع سنة 1836م ومبادئ الهندسة (طُبع سنة 1854م والمنطق (طُبع 1838م)، وروح الشرائع لمتسكيو (لم يُطبع وأصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج أصلاً لأحكامهم (لم يُطبع والدستور الفرنسي الذي نشره في كتابه تخليص الإبريز، وكتاب جغرافية العمومية - وهو كتاب (ملطبرون) - ترجم منه رفاعة الطهطاوي أربع مجلدات من ثمانية (طُبع بدون تاريخ وهذا بالإضافة إلى عشرات الكتب والأبحاث التي كتبها بنفسه أو أشرف عليها. ويُعد رفاعة علمًا من أعلام رواد النثر الحديث لأنه أغنى النثر بالمصطلحات، وأطل به على حضارة العصر ومكتسباته العقلية والمادية، وإغناء الفكر العربي الحديث والإشراف به على آفاق الحياة المعاصرة، وتيسير اللغة وتطويعها وإغناء معجمها بمصطلحات الحضارة الحديثة، وتبسيط التعبير والبعد عن التكلف والقيود، وإدخال أسلوب العرض المباشر التقريري الواضح. وعلى الرغم من أن رفاعة رافع الطهطاوي وقع في أخطاء تعبيرية، فقد غلبت عليه بعض تقاليد السجع، ولجأ إلى العامية أحيانًا، ونقل الألفاظ والمصطلحات نقلاً حرفيًا من اللغة الفرنسية، وقام بتصريفها واشتق منها وكأنها كلمات عربية، إضافة إلى عدم خلو أسلوبه من الركاكة والاضطراب أحيانًا، إلا أنه يُعد علمًا من أعلام النثر الذين ساهموا في تطويره، وأغناه بالكثير من المصطلحات والمعاني، بل ويُعد - بحق - المؤسس الأول لنهضة مصر الفكرية في القرن الماضي. ومن أهم ما قام به الرائد إنشاء مدرسة الألسن وتأسيسها عام 1835م، وتحرير جريدة الوقائع المصرية، وتحرير مجلة روضة المدارس، ودعوته إلى التجديد والإيمان بقيم إنسانية جديدة في الفكر والعمل، وتخليص المرأة من ربقة الأوهام والمخاوف والتقاليد الجائرة. ودفعها إلى الحياة للمشاركة في بنائها، ووضع دعامتين من دعائم النهضة الثقافية الحديثة وهما الترجمة والنشر‏. ‏وهو بحق برائد التنوير المصري نظرًا للمشروع الثقافي التحديثي الذي قام به مترافقًا مع المشروع الحضاري لمحمد علي مؤسس مصر الحديثة إبان فترة حكمه (1805 ـ 1848). في سنة 1873م كان الطهطاوي قد بلغ الثانية والسبعين من عمره ودب في جسده الوهن. ثم تٌوفي يوم الثلاثاء 27 مايو سنة 1873م الموافق (غرة ربيع الثاني 1290هـ).


أيدلوجية الطهطاوي

 

ثقافة الطهطاوي الموسوعية هي نواة أيدلوجيته الخاصة، فلقد ترجم في التاريخ والجغرافيا وأصول المعادن والهندسة والطب وحتى في الميثولوجيا، كما ألف في ميادين شتى، ولا شك أن كل هذا كان مصحوبًا برؤية تنويرية واضحة ووعي ناضح بالرغبة في انتشال مصر من هوة التخلف والفقر والانهيار لتقف في مصاف البلدان المتقدمة مثل فرنسا. ولكن ماذا كان مضمون ثقافته؟ وبأي مفهوم للثقافة تأثر: العربي أم الغربي؟ أم كان الفرق بالنسبة له مجرد نقطة على حرف؟ فالثقافة في الفكر العربي تعني التقويم والتهذيب، من ثقفت الرمح إذا هذّبته وقوّمته، ويراد بها الحذق والفطنة، وترد بمعنى التمكن والغلبة كما في قوله تعالى : "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء" (سورة الممتحنة ، آية رقم 2). أمّا في الفكر الغربي فدلالتها مرتبطة بزراعة الأرض، ثم استخدمت مجازًا في تعريف الفلسفة حيث عرفها شيشرون بأنها زراعة العقل (Mentis Culture) وأصبحت الكلمة تطلق على الدراسات المتعلقة بالتربية والإبداع في عصر النهضة. وقد تعددت تعريفات الثقافة حتى أصبحت تقارب مائتي تعريف تقريبًا، وقد أقرّت منظمة اليونسكو في مؤتمرها الذي عقدته للثقافة في المكسيك عام 1982م التعريف الآتي: "إن الثقافة بمعناها الواسع يُمكن أن يُنظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحيّة والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعًا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسيّة للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات". في الواقع ليس هناك إطار معين تقصر عليه ثقافة الطهطاوي وإنما كانت مزيجًا نادرًا ما يتكرر .. مزيجًا نتج عنه همزة الوصل بين الشرق والغرب .

وبالقطع كان للشيخ حسن العطار دورٌ كبيرٌ في توجيه رفاعة إلي التزود بالعلم والمعرفة وتأكيد وعيه بأنه لابد من العمل على تغيير المجتمع فقد كان هذا الشيخ سابقًا لعصره، طوف في الأرض وسافر برًا وبحرًا، ووصل إلي الآستانة، وأقام بها سنوات، واستفاد من هذه الرحلات، وهو الذي اختار الشيخ رفاعة عام 1826م إمامًا للبعثة الذاهبة إلي فرنسا، ومما يُحكى أن التلميذ الفتي عندما حان موعد السفر ذهب إلي شيخه يودعه ويشكره ويسأله النصيحة، فطلب منه أن يعني منذ اللحظة الأولى بتقييد مشاهداته في رحلته. وكانت هذه النصيحة هي السبب في ظهور الكتاب المهم (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ومن الكلمات المشهورة للشيخ حسن العطار قوله (لابد أن تتغير حال بلادنا، ويتحدد لها من المعارف ما ليس فيها) ولا شك أن هذه الكلمة كانت ماثلة دائمًا إمام رفاعة وهو يترجم أو يكتب في المعارف الجديدة، كذلك وهو يتولى قلم الترجمة أو نظارة مدرسة الألسن التي أنشأها وأراد لها أن تكون نواة النهضة الحديثة. ورفاعة بلا شك مفكر معتدل ومؤمن وصاحب رؤية علمية، إلى جانب ذلك فهو لم يحاول أن يدخل في صراعات مع الغرب وتجنب كثيرًا من النـزاعات مع علماء الدين المسلمين، وكان مع الحوار، وكان يرى أنه لا هوية محددة للعلم، باختصار كان مفكرًا متقدمًا على عصره .. الأمر الذي جعله يستحق كل هذه المكانة وهذا الحضور. فقد كان أكبر نزاع نشب بين الطهطاوي وعلماء الدين في عصره، كان حول إحياء التاريخ المصري قبل الإسلام، ذلك أن رفاعة الطهطاوي كان هو مؤسس المتحف المصري، بالرغم من رفض علماء الدين الذين كانوا لا يحبذون إعادة إحياء الحضارة الفرعونية، وهذا دليل على عمق الرؤية وسعة الأفق الذي كان يتمتع بهما هذا الرجل - دوره في المسرح العربي على سبيل المثال - علينا أولاً أن نقر أننا لم يكن لدينا تاريخ للمسرح العربي الإسلامي. ففي بداية القرن التاسع عشر كان رفاعة الطهطاوي أول من أشار إلى المسرح، جاء ذلك في تقريره الذي تحدث فيه عن تجربته وإعجابه بهذا الفن عندما شاهد بعض المسرحيات في باريس .. من الواضح أن الطهطاوي لم يرَ المسرح مجرد وسيلة للمتعة، بل أداة لإرسال مفاهيم مفيدة ومحددة للمشاهدين، سواء كانت تلك الرسائل سياسية أو اجتماعية .. وأن هذه الأداة يمكن أن تسهم في تطور حضارتنا .. وفي عصر الخديوي إسماعيل أقيمت دار الأوبرا، وقُدِّم فيها بعض أعمال فيردي (Verdi)، وبغض النظر عن المستوى الفني المبهر لدار الأوبرا السابق، فإن ما بين إنجاز إسماعيل لدار الأوبرا ودعوة الطهطاوي للمسرح اختلاف كبير .. فقد كان الطهطاوي يهدف إلى أن يحرر المصريون أنفسهم من التفرقة الاجتماعية (كنتيجة لاختلاف الأصول والثروات) وأن يستخدم المسرح لكي يجعل ذلك ممكنًا .أما الخديوي إسماعيل فكان يريد أن تصبح مصر قطعة من أوروبا .. ولكي يحقق ذلك فإن كل جهده كان يوجه إلى المجموعة العرقية دون النظر إلى المصريين واحتياجاتهم ليس هذا فحسب، ولكنه - وكما كان الحال في الأيام الأولى للمسرح في الإمبراطورية الرومانية - استخدم هذا الفن مرة أخرى ليقوم بتعظيم الحاكم "الخديوي"، ولم يكن دخول الأوبرا متاحًا للمصريين؛ فأسعار تذاكر الدخول لدار الأوبرا لم تكن في متناول أيديهم .. وهذا يتعارض وما نادى به الطهطاوي. ومن الواضح أن ذات الوسيلة (المسرح) إذا استخدمت بأيدٍ مختلفة (الطهطاوي/ الخديوي) فإنها تعطي نتائج مختلفة إحداها سلبي (الخديوي) والآخر إيجابي (الطهطاوي).

 


تخليص الإبريز في تلخيص باريز

 

كتاب "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" كتبه الطهطاوي أثناء إقامته في فرنسا، وعرضه على أستاذه (جومار) قبل أن ينشره بعد عودته. ظل الطهطاوي يكتب تقريره على مدار خمس سنوات متصلة عاين فيها مادته وعاش واحتك وقارن وفكر وتأمل كل شئ، بداية من أنظمة المأكل والمشرب والعمران، ومرورًا بالعلاقات الاجتماعية، والنظم الجغرافية والمؤسسات الفنية والفكرية والعلمية إلى المحافل والمصانع والمزارع وأنظمة الحكم والعادات والتقاليد وغيرها. و مفارقة الكتاب في أن المشهد الحضاري الذي صوره رفاعة في كتابه في الثلث الأول من القرن التاسع عشر تبدو أكثر تقدما مما آلت إليه الأوضاع الراهنة لأمتنا التي دخلت إلى القرن الواحد والعشرين بخطى أسيفة. فقط علينا أن نتأمل ذلك المشهد الفرنسي الذي صوره لنا بكل ما يحتوى عليه من أسس الحضارة والرقي. ومع ذلك فلم يكن رفاعة منبهرًا إلى درجة السذاجة والانبطاح أمام الحضارة الغربية، فقد دون سلبياتها وانتقد وجهها الاستعماري، بل أنه لم يفته أن يعاين السلبيات الفردية في سلوك أبنائها دون مبالغة أو نقمة أو إحساس بالدونية. كان العنوان الأول للكتاب هو (الديوان النفيس بإيوان باريس) ثم استقر رفاعة على (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وبغض النظر عن الجناس المصحف في كلا العنوانين والذي يعكس أسلوب ذلك العصر ويعتمد بنية الخطاب السردي التراثي، فإن الجديد هو كلمة (باريز) أو (باريس) في العنوان والتي تحيل إلى ذلك الزواج المبكر بين الأصالة والمعاصرة، وبشكل عام فإن الكتاب يزاوج بين أسلوبين: الأسلوب السردي القديم بكل ما يغص به من محسنات بديعية وإطناب وتقفية وجرس منظوم وسجع مرقوم يدعونا إلى الابتسام من صنعة قوامها التكلف والافتعال. أما الأسلوب الآخر فهو معاصر ينفذ إلى لب المعنى دون تكلف ويسرد الوقائع في جمل قصيرة خالية من الحشو والثرثرة ويمكن ملاحظة أن رفاعة يلجأ إلي الأسلوب الأول عندما لا تكون هناك وقائع يسردها، وعندما يتحدث في أمور على هامش الموضوع والكتاب في كل الأحوال يقدم موضوعه في قالب حكائي شائق، بداية من اللحظة التي تحرك فيها أعضاء البعثة من القاهرة إلى الإسكندرية إلى فرنسا وحتى عودتهم، وفى سياق هذه الرحلة نرى تطور رفاعة نفسه واكتسابه لبصيرة جديدة، وبالرغم من أنه كان يكتب عن حضارة جديدة وفى سياق ثقافي مختلف، إلا أن عينه كانت دائما على بلاده وكأنه يريد أن ينقل لنا روح المفارقة والمقارنة. وبالضرورة فقد تعرض رفاعة لمشكلات حادة من جراء الصدمة الحضارية التي واجهها، إلا أنه لم يفقد توازنه واجتهد بإخلاص شديد في البحث عن توفيق فعال بين الوافد والموروث، يعصمه من زلل الالتحاق بالآخر. وقد كان مسلحًا بوعي أستاذه حسن العطار الذي اطلع على علوم عصره مثلما كان مسلحًا بوعيه الفطري وعبقريته النادرة، فهذا الشاب الذي تلقن في تعاليم الإسلام أن (النظافة من الإيمان) لم يجد هذه النظافة في بلاده ووجدها في بلاد لا ترفع راية الإسلام، ووجد أيضا أن الباريسيين متحضرون في سلوكهم الخاص والعام فهم لا يكذبون ولا يظلمون وأن نظامهم السياسي يقوم على العدل والمساواة والإخاء وكلها قيم حض الإسلام عليها، لكنهم غير مسلمين، لقد وجد رفاعة حلاً بسيطًا لهذه المعضلة عندما قال قولته الشهيرة: "وجدت عندهم إسلامًا ولم أجد مسلمين ووجدت عندنا مسلمين ولم أجد إسلامًا". لكنه لم ينجُ من لسعات جعلته يعيد النظر في كثير مما قيل في كتب التراث القديمة. فعندما وطأت قدماه فرنسا ووجد النخيل موفور الثمار تذكر ما قرأه في كتاب (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) للقزويني من أن (النخلة شجرة مباركة عجيبة ومن عجائبها أنها لا تنبت إلا في أرض الإسلام) وهاهي النخلة أمام عينيه في أرض غير أرض الإسلام، وهو عندما يتحدث عن العلوم التجريبية والمعامل التي هو معجب بها أشد الإعجاب يحذر قارئه المسلم من (الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة، لأن لهم في العلوم الحكيمة مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها). ومع ذلك فإن رفاعة لا يخفي إعجابه الشديد بأمرين أولهما النظام السياسي الفرنسي والحكومة الفرنسية إلى الدرجة التي قام فيها بترجمة الدستور الفرنسي كاملاً، مع الإشادة بمبدأ حرية الرأي، والفصل بين السلطات، والسيادة الشعبية، والديمقراطية البرلمانية، ويقدم ذلك لقارئه (ليكون عبره لمن اعتبر) فالمساواة هي أساس الحكم بين (سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع .. حتى أن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره) أما الضرائب فإنها تُحصل بنزاهة وتُؤخذ بكيفية لا تضر المعطي وتنفع بيت مالهم، خصوصًا وأصحاب الأموال في أمان من الظلم والرشوة. ويقدم رفاعة ترجمته للدستور بالثناء عليه لكنه يقول (وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه) ويقول لقارئه إنه يحرص على ترجمته لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو أبدًا والعدل أساس العمران). أما الأمر الثاني الذي أثار إعجاب رفاعة بشدة فهو اللغة الفرنسية نفسها فهو يقدمها لك بالمقارنة باللغة العربية، فالفرنسية واسعة المجال غنية بالمعاني (لكثرة الكلمات غير المترادفة لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها ولا بالمحسنات البديعية اللفظية) وجمال الأسلوب عندهم لا يقوم على الجناس والتورية (فهي من هزليات أدبائهم) ولا يوجد في أشعارهم التغزل بالمذكر. وإن كان يأخذ على نسائهم قلة العفاف وعلى رجالهم قلة الغيرة.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة ومقصد. تضم المقدمة أربعة أبواب، والمقصد 6 مقالات، في كل مقالة عدة فصول. وتبدأ المقدمة بذكر أسباب السفر إلى فرنسا لكنه يعود بك إلى ما قبل التاريخ معتمدًا على ثقافته من كتب السير، فيقسم البشرية من حيث أصولها إلى تقسيم عجيب في ثلاث مراتب: أولها للبشر المتوحشين، والثاني للبرابرة، والثالث لأهل الأدب والظرف والتحضر والتمدن ويدخل في هذه المرتبة العرب خصوصًا أيام العباسيين والأندلس، ثم الإفرنج حاليًا لأنهم تقدموا فيما أتقنوه من علوم وما مارسوه من عدالة. وفى الأبواب الأخرى للمقدمة يتحدث رفاعة عن تخصصات أفراد البعثة وأسماء رؤسائها والعلوم التي قاموا بدراستها كالإدارة والدبلوماسية واللغة والعسكرية وصناعة الأسلحة والهندسة والملاحة وغيرها ويتحدث عن المسيو (جومار) العالم الفرنسي الذي كان مكلفًا بالإشراف على البعثة والمراسلات التي كان يوافى بها محمد علي عن سيرها. أما في المقصد فإن رفاعة يحكى بالتفصيل البطيء وقائع البعثة فيخصص المقالة الأولى لرحلتها في النيل من القاهرة إلى الإسكندرية في أربعة أيام ثم الإقامة 23 يومًا في الإسكندرية في قصر الوالي، ثم السفر في 33 يومًا حتى الوصول إلى مارسيليا ويستعرض ما دار بخلده أثناء الطريق، ويتحدث عن تاريخ الإسكندرية كما ورد في كتب السير، وهو كلام أقرب إلى الفلكلور منه إلى التاريخ، وفى البحر يعبر رفاعة عن إعجابه بنظافة السفينة التي يركبها لأول مرة كما يعبر عن ردود أفعال زملائه إزاء أهوال البحر وحركة الرياح حتى وصولهم إلى مارسيليا.

وفى مارسيليا تبدأ المقالة الثانية وتبدأ رحلة جديدة من الدهشة والاستغراب لدى أفراد يأكلون لأول مرة جلوسًا على سفرة (يسميها رفاعة طبلية كبيرة) ويعرفون لأول مرة شيئًا اسمه الشوكة والسكينة يقول رفاعة في أسلوب شائق: "ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها، لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلا عن الجلوس بالأرض، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها عليها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحا من القزاز، وسكينا وشوكة وملعقة، وفى كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حول الطبليات كراسي لكل واحد كرسي ثم جاءوا بالطبيخ، فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنًا ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع فيعطى لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلاً، ولا بشوكة غيره أو سكينة أو يشرب من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة" ويستمر الحال هكذا في مارسيليا 18 يومًا إلى أن يعتاد أفراد البعثة عادات الفرنسيين ثم يرحلون إلى باريس فتبدأ المقالة الثالثة وفيها يسجل رفاعة بالتفصيل كل شئ في باريس، بداية من تخطيطها الجغرافي كمدينة بشوارعها النظيفة وميادينها الواسعة وحدائقها الغناء ومقاهيها التي تغص ببشر متحضرين، ومسارحها وملاهي الرقص والغناء والمتاحف، وطقسها ومزاج أهلها ونشاطهم وخفة حركتهم وحبهم للهو والفسحة والرحلة، وبهجة نسائهم وإيمانهم بالعلم ورفضهم لكل ما لا يقبله العقل من خوارق. ولا يبخل رفاعة علينا بوصف البيوت من الداخل وترتيب الأثاث والديكورات والستائر وأنواع الملابس التي يفضلها الرجال والنساء وأنواع الأطعمة وطرائقهم ثم تحدث عن النظام السياسي والدستور والجمعيات الخيرية والملاجئ التي تضم الأيتام واللقطاء وذوي العاهات ومصابي الحروب وكذلك أنواع المصانع والمتاجر والمصارف. وفى المقالة الرابعة يتحدث رفاعة عن رحلته الشخصية في تحصيل العلم وتعلمه الفرنسية وإتقانه لها والأساتذة الذين تعلم على أيديهم، ويتحدث عن عدد كبير من المستشرقين وحواراته معهم ويثني رفاعة على منهج الفرنسيين في تعليم اللغة ويسجل البرنامج الذي اتبعه المبعوثون ويورد عددًا من المكاتبات التي كان يرسلها محمد علي إلى بعض المبعوثين فيوبخهم على تقصيرهم كما يطلعنا على رسالة ودية من صديقه (جون سلادان).

وفى المقالة الخامسة يروي رفاعة حدثًا تاريخيًا في حياة الفرنسيين عندما ثاروا على حكومة الملك شارل العاشر في يوليو 1830 ويحلل علة خروج الفرنساوية على طاعة ملكهم. إن (تلخيص الإبريز) كان أول وأهم كتب الطهطاوي - صدر سنة 1834 - ويقوم على وصف رحلة الطهطاوي إلي باريس ويمتلأ بمادة اثنولوجية وصفية ومعيارية مقارنة غزيرة للغاية، وتكمن أهمية الكتاب في انه أول عمل ينتسب إلي تقليد أدب الرحلات في الثقافة العربية ويقدم رحلة للاحتكاك مع الغرب في فترة إشعاع الغرب وافتتاحه للعالم، ولعل ما يفسر رؤيته للذات عبر رؤية الآخر وتقديمه بشكل مشع والدعوة لاستلهامه. ويقع في هذا الإطار ما يمكن تسميته بمعرفة الطهطاوي للذات عبر معرفة الآخر والاضطلاع بالوظيفة النهضوية التي تردم الهوة ما بين مجتمع راكد متأخر غاصت عناصر تجديده الحضارية وانطفأت شرارتها وبين مجتمع متحرك يفور بالحيوية. الطهطاوي هنا هو رائد الجيل النهضوي الأول في المعرفة.


الفجوة بين التنويري والجمهور

 

لاشك أن الفجوة تزداد ما بين المثقف التنويري وبين القاعدة العريضة من الجماهير والتي تمتلك بالفعل قوة تغير الواقع الذي نعيشه. وهذا ما حدث في الصراع الفكري الذي خاضه الطهطاوي ومازالت رسالته تخوضه حتى الآن. أولاً، لأن هذه الجماهير كانت مغيبة تمامًا بفعل السلطة التي حاصرتها في دائرة البحث عن قوت يومها، وبعيدة تمامًا عن التفكير في أية حلول مستقبلية لأزمتها، كما أن هذه الجماهير فقدت ثقتها تمامًا في الأحزاب السياسية والمثقفين التابعين لها، وربما تكون فقدت الثقة في فكرة التغيير نفسها. ومن ناحية أخرى يتمزق فكره التنويري بين شقي الرحى: ضغوط السلطة وغياب الديمقراطية والليبرالية من ناحية، لذلك لا يملك هذا المثقف المحاصر الوصول إلى جماههيريته المفترضة ولا يستطيع التأثير فيها. والأنظمة والحكومات في مجتمعاتنا تكاد تتفق في فكرة تهميش دور المثقف وإبعاده عن دائرة التأثير، لذلك يبدو المثقف مثل طائر صغير مربوط بخيط ينتهي في يد الحكام، وهم وحدهم الذين يمتلكون تحديد مسافة الخيط. ويملكون استرجاعه في أي وقت أيضا وحبس هذا الطائر في السجون والأقفاص متى شاءوا لكن يظل على المثقف دور لا يمكن التنحي عنه وتبقى دائما محاولاته على القول الانتقادي وإعمال العقل والتمرد على السائد والمألوف من أجل إحداث التغيير أو تحقيق الطموحات التي يحلم بها هذا الجمهور اللاواعي بما يدور حوله. ويجب أن نلاحظ الدور الخطير الذي لعبته السلطات من أجل تهميش دور المثقف وتحويل الأنظار عنه. لأنها تمسك بكل متنفس للنشر والإعلام ولديها القدرة الهائلة على قهر هذا المثقف لو تطلب الأمر.

لكن هذا كله لا يلغي وجود فكر الطهطاوي التنويري الفاعل الذي سعى إلى أحداث التغيير الجذري في الأوضاع. لكنه غالبًا ما يجد ميلاً من الجماهير ناحية التيار الديني ويبدو ذلك شيئا منطقيًا لأننا نعيش في أزمة حقيقية. ومن ناحية أخرى توجد مسئولية كبيرة على المثقفين أنفسهم، ولا نستطيع تفسير هذه الصراعات الضارية التي تجري بينهم على قضايا مفتعلة وربما على علاقات ومواقف شخصية. صراع عنيف يدور بين المثقفين وأنفسهم وكأنهم في حرب، ولكن المثقف أيضًا جزء من المجتمع وما يحدث يمثل انعكاسًا للأزمة العامة التي يمر بها. لكن يفترض أن يتجاوزها المثقف الحقيقي بما يمتلكه من وعي يسمح له بالرؤية الثاقبة ووضع الحلول وتنفيذها.


خاتمة

 

بعد أن أطلعنا في عجالة شديدة على حياة رائد التنوير رفاعة رافع الطهطاوي، وعرفنا إجابات الأسئلة التي طرحناها آنفًا، كان من الواجب أن نعرف مصير هذا الفكر العظيم في القرن الحادي والعشرين. ممدوح كدواني - محافظ سوهاج - بعد لقائه مع فرانسوا دوبفير سفير فرنسا في القاهرة،‏ والسفير المصري محمد فتحي - حفيد الشيخ رفاعة الطهطاوي - قرر تخصيص قطعة أرض في حي الكوثر لإقامة مركز ثقافي كبير يحمل اسم رفاعة الطهطاوي تقيمه فرنسا‏.‏ المركز يضم مكتبة شاملة وقاعات للاطلاع‏،‏ ومسرحًا مفتوحًا،‏ وغرفًا مجهزة للوثائق والمخطوطات المهمة،‏ وعددها ‏1067‏ وترجع للقرن الرابع الهجري،‏ سيتم ربطها بشبكة الإنترنت‏‏ ونشر الدوريات بالتعاون مع الجامعات والمراكز العلمية المتخصصة‏ وذلك عن طريق مشروع مشترك بين مصر وفرنسا‏.‏ وبهذا تستمر مسيرة التنوير التي بدأها الطهطاوي الذي يعتبر النبراس الأول في تاريخ مصر الحديثة وقد أثر بحق في تغيير الخريطة الثقافية في مصر. فلولاه لما كانت نهضة مصر ولا ظهر من ظهر من أبنائها في شتى علوم الحياة .. وفي النهاية لا يتسنى لي سوى أن أقول أنني لم أجد في كلمات اللغة العربية - رغم ثرائها - ما يستطيع أن يعبر عن مشاعر الاحترام والتقدير والفخر والإعزاز والتبجيل لهذا العالم الجليل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 


المراجع

 

القرآن الكريم

المعجم الوجيز

رفاعة رافع الطهطاوي - الأعمال الكاملة – بيروت: المؤسسة العربية، ط1- 1973.

د. محمد عمارة - رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث - بيروت: دار الوحدة، ط1- 1984.

د. محمد جابر الأنصاري - تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1992 م.

د. عبد الحليم عويس - ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة - الرياض: النادي الأدبي بالرياض 1979 م.

 

 

http://www.alarabnews.com

http://www.albayan.co.ae

http://www.islamonline.net

http://www.saaid.net

http://www.lahaonline.com

http://www.mafhoum.com

http://www.ljan.de

http://www.amanjordan.org